مسرحية «الهياتة» للمغربي عبد الكبير الركاكنة: كوميديا متعددة في المعنى متفردة في الأسلوب

مسرحية «الهياتة» للمغربي عبد الكبير الركاكنة: كوميديا متعددة في المعنى متفردة في الأسلوب

تضع المسرحية المغربية الجديدة فرقة مسرح الحال «الهياتة» قضية القيم الإنسانية كمرتكز لفعلها المسرحي الأساس، ليتفرع منه العديد من القضايا التي تلامس اليومي؛ فما بين قضية الأطفال المتخلى عنهم وبين تعدد الزوجات والطلاق، تُسائل المسرحية بكثير من السخرية السوداء، الجشع الفني .
إن مسرحية «الهياتة» ـ من تأليف حسن مجاهد ـ تستدرج المتلقي بهذا العنوان الضارب في الثقافة الفنية الشعبية، حتى يكون مهيأ لاستقبال إشارات تعتمد إيقاعا سريعا كما هو الحال لرقصة «الهيت» الشهيرة، ففن «الهيت» يستند إلى مجموعة من إيقاعات رائقة تدفع الجسد إلى دخول حالة من العنفوان الراقص، بحركات متناغمة آسرة، وبالتالي فإن المسرحية تستمد قدرتها على طرح القضايا الإنسانية مجتمعة في تناغم تام وإيقاع عال؛ فعبد الكبير الركاكنة المخرج يوظّف إيقاع جسد الممثل المتعدد مع الإيقاع العام لتواتر المشاهد؛ إنه نوع من «هيت الهياتة» في بعده المسرحي القادر على إضاءة المعنى من خلال نسق مسرحي شيق.

حيل ممتعة وفعل التطهر

ظاهريا، تستقرئ المسرحية قضية الأطفال المتخلى عنهم، وما يخلفه ذلك من مآس إنسانية وعاطفية وتشتت وضياع أسري وحرقة الفقدان، لكنها في عمقها تقف عند قسوة المجتمع من منظور جديد بحيث يكشف جوانب خفية، كما تشف عن فعل إنساني كبير، وهو الدور الذي تلعبه المؤسسات الخيرية التي تحتضن الأطفال المتخلى عنهم، وتعوضهم عن ثدي الأم وحنانها وحنو الأب ورأفته. المسرحية تدفعنا إلى الانتباه بواسطة مجموعة من الحالات المتقاطعة والمتداخلة إلى هذا الأمر بكثير من التأمل، فـ»مسعود» الذي لعب دوره الفنان أحمد بورقاب، فضل الاشتغال خادما في فيللا «الحاجة هنية»، فقط ليظل قريبا من ابنه «عادل» الذي كفلته الحاجة؛ إنه نوع من التكفير عن فعل التخلي عن ابنه مكرها، بعد أن هجرته زوجته. الخادمة «مسعودة» تفعل كل ما في جهدها لتعيد ابنتها إلى حضنها باتفاق مع «الحاجة هنية» بعد أن باحت لها بسرها وحكت لها عن الظروف التي دفعتها للتخلي عن ابنتها.
بين كل هذه الشحنات العاطفية التي تتداخل وتتقاطع بين المصائر، تنتج لنا مسرحية «الهياتة» فرجة مسرحية تدفع المتلقي بحيل ممتعة ليتفاعل معها، إلى درجة تقطع أنفاسه بين مشهد وآخر وتوصله إلى فعل التطهر.

بناء درامي بنسق فني منظم

في رؤياه الإخراجية يؤكد الركاكنة قدرته على وضع تصور ذكي، يعطي للممثل مساحات لعب شاسعة، في فضاء يتأثث بجمالية راقية، من خلال ديكور يتماهى تشكيله المميز بالألوان والإضاءة والموسيقى مع أداء الممثلين، وهو من تصميم وإنجاز المبدع عبد الصمد الكوكبي؛ وبالتالي فالركاكنة نجح بشكل كبير في وضع بناء درامي بنسق فني منظم يدمج كل مكونات العرض المسرحي مع الحالات الدرامية وأثرها الفني العام. ينبني تميز المسرحية أيضا، على أداء الممثلين، أولا في قدرتهم على الابتكار في الحركة المفاجئة حسب كل حالة، وفي الملفوظ الجسدي لتعميق هذه الحالة الدرامية، وثانيا في انسجامهم التام والمساندة الجماعية، مع خلق حالة مما نسميه «عدوى التفاعل» في ما بينهم من جهة، وبين المتلقي من جهة ثانية، فالممثلة نزهة عبروق في دور «مسعودة» الخادمة المشاغبة المنفلتة النزقة، تميزت بشكل لافت في إبراز هذه الحالات المتناقضة، وهي تخفي جرحها العميق. الفنان أحمد بورقاب في دور الخادم «مسعود» زوج «مسعودة» نجح بشكل كبير في إخفاء مشاعر الأب التي ظل يغالبها وتغالبه حتى آخر المسرحية. أما الممثلة كنزة فريدو فإنها أثبتت علو كعبها، وهي تقدم واحدا من الأدوار الناجحة والقوية والمختلفة عما سبق وقدمته في مسارها الفني الطويل، فهي «الحاجة هنية» المرأة الرزينة التي يشمل حنانها وعطفها كل من حولها، إنها القادرة وحدها على خلق التوازن والاستقرار النفسي والمعنوي داخل البيت، إنها المبتدى والمنتهى. الممثلة هند ضافر في دور «حنان» يكتشف فيها الجمهور طاقة جديدة وهي تنجح باقتدار في لعب دور الفتاة التي تعايشت مع آلامها وعكست بأخلاقها العالية ورزانتها، التربية التي تلقتها داخل المؤسسة الخيرية، بهدوئها الآسر تميزت هند ضافر وأثبتت أنها ممثلة حقيقية. الممثلة فاطمة بوجو حكاية أخرى لتميّز الممثلين في هذا العرض، إنها المحامية «زليخة» التي نذرت حياتها للدفاع عن المرأة، فرغم رزانتها غالبا ما تتحول إلى عاصفة هوجاء كلما تأججت مواجعها مع حكاية طلاق قديم لم يندمل جرحه، فاطمة بوجو جمعت بين الهدوء والثوران بكل اقتدار.
الركاكنة سيتألق في هذا العمل كممثل كما تألق كمخرج، وسيقدم أداء باهرا في دور «عادل» الفنان المتواضع والطيب الذي يحلم بإقامة معرض فني أول في مساره، والذي يرفض فكرة الزواج بشكل قاطع، سيتغير موقفه من الرفض إلى القبول في حالتين تتقاطعان بين الإيجابي والسلبي، أولها حين يقرر الزواج بعد أن يقع في غرام الممرضة، والثانية حين يرفض التنازل للجمعية التي ترأسها أخته «زليخة» عن جزء من عائدات المعرض، حسب اتفاق سابق، مقابل مساعدته على تنظيم المعرض. وبين هاتين الحالتين المتناقضتين، يظهر الركاكنة قدرته على تعميق التحول الدرامي من حالة إلى أخرى. بين المشاعر المتناقضة في عشق المرأة وعشق المال والغرور وازدراء الآخر. إن نجاح الممثلين يعكس بجلاء الدور الكبير والمهم لإدارة الممثل التي يقف وراءها الممثل والمخرج عبد الكبير الركاكنة، الذي ركز كثيرا على ما يمكن تسميته «ضرورة تناغم سرعة إيقاع الحركة وسرعة إيقاع الملفوظ مع الإيقاع العام».

ناقد مسرحي مغربي

عبد القادر مكيات